الشيخ محمد رفعت.. الحنجرة الذهبية!
ولد الشيخ "محمد رفعت" ـ رحمه الله ـ في حي "المغربلين" بالدرب الأحمر بالقاهرة في يوم الاثنين 9 مايو عام 1882 وتوفي أيضا في نفس اليوم الاثنين 9 مايو عام 1950م. كان مبصرا حتى السنة الثانية من عمره حين كفت عيناه عن الرؤية بسبب المرض, ولكنه عاش بقية عمره بصيرا بنور القرآن, بدأ في حفظه وهو في الخامسة في كُتّاب مسجد فاضل باشا، وأتم حفظه قبل العاشرة, وعندما توفي والده محمود رفعت مأمور قسم الخليفة, كان هو في التاسعة من عمره ووجد الطفل اليتيم نفسه مبكرا كبيرا لأسرته وعائلها الوحيد, فلجأ إلى القرآن يعتصم به ولا يرتزق منه, تدثر بالانطواء على نفسه يزكيها بجهد صامت واجتهاد كبير ووضع الله أمام عينيه وفي اعتباره، ووضع نفسه في خدمة كلام الله فدرس تفاسير القرآن وقراءاته، كما حفظ التواشيح. وفي سن الخامسة عشرة عين قارئا في مسجد فاضل باشا بحي درب الجماميز، وظل يشجي الناس بتلاوته حتى إن المسجد كان يغص بالناس منذ الصباح الباكر وكانت تحدث بين المستمعين حالات من شدة التأثر بصوت الشيخ العظيم.
ولما كان افتتاح الإذاعة المصرية في يوم الخميس 31 مايو 1934 كان الشيخ رفعت أول من افتتح الإذاعة بصوته، وذلك بعد أن استفتى شيخ الأزهر الشيخ "محمد الأحمدي الظواهري" في موقف الدين من الإذاعة, وبعد أن قدمه للقراءة عبر الميكروفون محمد سعيد لطفي باشا (مدير الإذاعة) وأحمد سالم مدير استوديو مصر، وكانت أول قراءة له من سورة الفتح.
كان يملك حلاوة الصوت وجمال الحس ونقاء النبرة، كما يملك خبرة في الأداء عالية المقام, وعندما قامت الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) فإن إذاعات العالم مثل إذاعات برلين في ألمانيا وباري في إيطاليا وكذلك إذاعات لندن وباريس وموسكو كانت تستميل العرب والمسلمين عن طريق استهلال برامجها بصوت الشيخ رفعت وتتبارى في ذلك.. وقد تربع صوت محمد رفعت على سماء العالم العربي والإسلامي.. إلى أن أقعده المرض في بداية الأربعينيات عن التلاوة نتيجة ورم بالأحبال الصوتية سبّب له فواقاً (زغطة) دائماً عطل حنجرته الذهبية عن الإرسال المبدع..
ومع أنه لم يكن يملك تكاليف العلاج إلا أنه اعتذر عن عدم قبول أي مدد أو عون ألح به عليه ملوك ورؤساء العالم الإسلامي، وكانت كلمته المشهورة: "إن قارئ القرآن لا يهان" فصبر على المرض في الكبر كما صبر عليه في الصغر وكل أمله أن يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. وظل هكذا حتى انتقل إلى رحاب ربه يوم الاثنين 9 مايو 1950م.
كانت للشيخ محمد رفعت موهبة وقدرة عجيبة على تطويع الصوت حسب المشاهد القرآنية، ويعرف مواضع الترهيب والزجر والتشويق والترغيب, وكان يطوع صوته تبعا للآية التي يتلوها: فتارة نراه إعصارا هادرا وتارة أخرى يفيض رقة وعذوبة وحنانا. أما في الأذان فإنه سيد المؤذنين, فإذا سمعت أذانه فهو الأذان الأجمل, إذ تهتز لتهليله وتكبيره الخلائق وتختلج المشاعر إجلالاً واحتراما لعظمة الأذان وهيبته.
حين يقول "الله أكبر" يعطي للفظ الجلالة النبرة الأعلى لتخرج كلمة (الله) بتهليلة هائلة أعلى وأقوى من الجواب (أكبر) فتسمعها وهي تجلجل في السماء.. وكثير من الناس أسلموا بعد سماعهم الأذان منه، والمؤمنون زادوا بسماعه إيماناً وتصديقا ويقينا.
كان الشيخ محمد رفعت طيبا متواضعا زاهدا، ويكفي أن نذكر أنه رفض الذهاب للقراءة في عزاء الملك فؤاد الأول، وفضل القراءة في عزاء أحد جيرانه الفقراء بلا أجر, كما كان عطوفا رقيق القلب لا ينام حتى يطمئن على فرسه الذي يجر عربته؛ يطعمه ويسقيه ويوصي به ابنه الأكبر محمد ليعتني به شفقة ورحمة.
رحم الله الشيخ محمد رفعت وغفر له وجزاه كل خير.